التخطي إلى المحتوى الرئيسي


نوم البنات

قرأه في سجل الصدى المدوي
ابو طالب محمد
قدمت منطقة صناعة العرض في أمسية الجمعة 2015م على خشبة مسرح الفنون الشعبية العرض المعنون "نوم البنات"، وهو رؤية نقدية اتجهت صوب سجل تاريخ السودان الحديث مستندا إلى  صدى كرري وما شهدته من مقاومة وهزائم أمام مدافع الإنجليز، أعاد العرض هذا الصدى في فضاءات فنية مستصحبة سجلات الماضي، ووضع إليها حدود زمنية مقدمة أطروحات فكرية امتازت بطابع العمق الفني ومتخطية سطحيات الطرح السائد يومذاك، مما دعا العرض أن يتصدى إلى التاريخ المهدوي. وصاغ طرحه في سياقات فكرية أخذت طابع المعاصرة باستدعائه للحروب الحديثة ومخلفاتها التشاؤمية في مجريات تحول المجتمعات السودانية، وعليه صار خطاب العرض في أيديولوجيته الفكرية صانعا رؤية فنية خلقت معادلا فنيا موضوعيا بين أدائيتة وسيمائيته.
ارتكزت صورة العرض الفنية على مشهديه مكونة من "نبات العشر"، باعتباره مكان أساس تم توظيفه بحرفية عالية و مقصودة الدلالات دعمت خطابه  فنيا وموضوعيا. وتم التعامل معها من بدايته  إلى خواتيمه المشهدية، حيث جسدت في المشهد الأول من العرض فعل مشهدي مزج بين مستويين فنيين.
المستوى الأول:
يحيل إلى ثقافة إنسان الريف عندما يريد أن يقضي حاجته يتخذ من ضرا نبات العشر ساترا   لقضائها، وهذا تجسد في مشهديه الثلاث ممثلات عندما أظهرن في حركة مصحوبة بفعل "ململة" مصاحبة لسقوط فساتينهن.
المستوى الثاني:
تبادلن الممثلات في الضراء أحاديث الماضي بكل  محمولات حنينه، مما جعل الصورة المشهدية تدعم الفعلين في آن معا، واستمر العرض في بث طرحه لقضيته مستشهدا بأسلوب الحكي الدرامي الذي عكس حياة نسوة نعمن بوجودهن مع الرجال وتألمن بالفراق. قدم هذا الحكي بأسلوب رؤية صريحة وجريئة استصحبت معها قول المسكوت عنه ورابطة ذلك باستشهاد زوج كل واحدة منهن في معركة كرري أو غيرها من المعارك التي قضت على أفواج من الرجال في الكثير من الإشارات الوارد ذكرها. دلت مشاهد الحكي على فراق الزوج ونومه الخالد ونومهن القلق، و لجأ أيضا في الكثير من مشاهده لرفض الحرب والدعوة لخطاب حياة حاشدا بالأمل والاستقرار مدللا بذلك حضور شخصية (شبيه الرجال) الذي أصبح بمثابة تعويض لحياتهن والوجه البديل لإشباع غرائزهن. 
وتكررت أيضا فكرة الرفض للحرب في المشهد الأخير حيث أظهر بصورة مباشرة الدعوة لحياة مليئة بالإنجاب لآنه السلاح اﻷقوى لاستمرارية الحياة، وتجسدت ثقافة الرفض في الاستعانة بالأغنيات الشعبية مثل: (شجر القرض الزرعوك تداوي المرض..... إلخ)، من هنا انفتح سياق العرض على الاستشهاد بوسيلة العلاج التقليدية ودورها في تطييب الجراح الناتجة عن أثار الحرب بمختلف مسبباتها. جاء استخدام مفردة (القرض) ومدلولاته للعلاج. وتحيل ذات المفردة (القرض) إلى فعل الارتواء من الظمأ، بمعني أن الإنسان المسافر في أرض قاحلة يستعين بمص القرض لتفادي حالات الظمأ لأنه يبلل الحلق والشفتين. وهذا التجسيد وجد حضوره في إحدى مشهديات العرض عندما نفدت مياه الشرب. شمل محمول الاغنية مستويان مرتبطان مع بعضهما بعضا. أولا: رفض الحرب المسببة الجروح، وثانيا: مداوة الجرح النازف.
ورد من الأغنيات الشعبية أيضا أغنية (شجر الاراك) ومحمولاتها الثقافية الدالة على تهدئة حالات ألم الأضراس والأسنان.
أخيرا عرض نوم البنات مزج بين خطابين فنيين إحداهما خطاب ماضي تمت صياغته ودمجه مع خطاب ثان أكثر معاصرة.
التحية للمؤديات اللائي قدمن أداء تمثيليا رفيعا ومنسجما مع خطاب العرض التاريخي والفني بشقه الحديث.  والتحية أيضا للفنان محمد أحمد الشاعر ودوره الرائد في تقديم أداء تمثيلي مستوعبا  فنيات اللعبة الأدائية في كافة مستوياتها.
شرت في ليلة عرض نوم البنات للخطاب الايديولوجي وقراءته لسجل مدوي صداه، وحظيت الإشارة بقبول من بعض المهتمين بأمر الخطاب. وخالفني من يعتبر أن المسرح تسلية وملء فراغ وفي الحالتين واردات، ولكني كثير الميل لجانبه الايديولوجي لأنه يضيف لمعرفتنا الضامرة المزيد من الاسهامات. والبعض منهم رفضوه جملة وتفصيلا لأن أمر المسرح ليس من أولوياتهم مع أنهم درسوه وتعلموه معرفة ينتابها النقصان والشكوك في الكثير من الجوانب. وأخرون  قراؤه في اطار رؤية مختلفة عن رؤيتنا وأضاءوا جوانب لم تخطر على البال.
يجيء هذا المقال مستكشفا طرق استيعاب الجانب الفني للمضمون. وهو جانب يرتكز على  خمسة نقاط أساسية.
أولا:-
        دلالة شجر العشر كصورة مشهديه وضعت في خلف جغرافية الخشبة لتقدم مستوى قراءة دالة على تواجد العشر وكثافته وتباعده من مناطق السكن، لان العشر يحمل كرات خضراء شفافة مليئة بمياه بيضاء أشبه باللبن تسبب أذي في العيون وتجعلها دامعة وتكاد تعميهما من يتداعب بها، واستغلت وظيفته  في شكل ضرا لقضاء الحاجة. ووضعه في خلف جغرافية الخشبة ليتيح التحرك بحرية كاملة لمقدمي الخطاب اﻷدائي. قدمت مشهديه العشر مدلولات بصرية كثيرة، منها فعل اللعبة أو المطاردة من قبل شخصية "شبيه الرجال" للبنات ويردد في حوار مباشر يدل على فعل الفحولة يابت يابت يابت يابت (اذا ارهفت السمع تسمع آهآ آهآ آهآ ، واستخدم أيضا مشر للملابس.
ثانيا:-
        الأداء التمثيلي امتاز بأوجه أدائية عدة تلاحظ محمد أحمد الشاعر راوي يعيد أصداء ما ورد في كرري بحرقة وأسف لما ضاع من نضال في وجه الغازي. يشخص هذه الحالة بأدائية موغلة في التعبير المحترف في خطابه المجسد والمنسجم مع خطاب البنات اللائي بدورهن لعبن في مسارات أداء له طابع الخصوصية بعوالم المرأة في حالة المناحة وتذكر لحظات الحميمية لكل منهن مع زوجها بأسلوب حكي أخذ فعل حضور لعالمهن الخاص المرئي وغير المرئي إلى فعل مرئي. عندما تم توظيف حفرة الدخان (طقس مجتمعي) وكيفية تقديمها لأداء امتاز بطابع التقمص أحال التلقي لعالمه الواقعي عندما يري مرأة  غارقة في طبقان البوخة. تشحذ ذهنه ذات الفعل الذي فقدنه النساء بسبب غياب ازواجهن في الحرب. ومن جانب أخر ووظف في  رفض نسبة للتخلص من هبائه العالق حواليه. صار فعل الدخان مكملا لعالم المرأة الخاص المفقود بناءا على سردية الحكي التي سبقته، ومستويات كثيرة فجرت فقدان حميمية المرأة لزوجها.
ثالثاً:-
        دلالة العزف على القرع أخذ فعلين في التوظيف الغناء للحبيب الغائب، ورفض فكرة الحرب.
رابعا:-
توظيف اﻷزياء لان الأيقونة السائدة في العرض اللون الأبيض وفي العرف المجتمعي يرتدينه السودانيات عندما يتوفى أزواجهن. وهو إحالة لرمزية الملائكة كما وصفها الدين. ومن الأزياء أيضا الجبة الأنصارية وهي إحالة واضحة لأيديولوجية العرض. وهناك الجلباب الحديث ودلالته العصرية.
خامسا:-
تطابقت فنيات العرض مع الخطاب الفكري له.
خاتمة:
تقرأ تجربة  عرض نوم البنات وفق الحدود المتوقف فيها الخطاب المسرحي الحديث في العقد الثاني من الألفينيات بحيث أن العرض مثل علامة بارزة في محطات الخطاب، ولأنه توجه صوب التاريخ في بعديه القديم والحديث.
شكرا جزيلا منطقة صناعة العرض استمتعت بمشاهدة جديرة بالكتابة وجديرة أيضا بمقاييس مستويات الخطاب في المستقبل.


 نوم البنات 2015م


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من ذاكرة المنطقة الصنايعية (كايليك - أهل الكهف) - مارس 2008م

وليد الألفي.. رؤية في المسرح السياسي السوداني

  في عرضه "كرّاس حساب"، يتناول الكاتب و المخرج المسرحي   السوداني وليد الألفي   الانتفاضة الشعبية   التي اندلعت في بلاده في كانون الأول/ ديسمبر عام 2018، من خلال إضاءة جانب من تداعياتها متعلّق بمناقشة أزمة الحكم في ظلّ الحكومة الانتقالية ونموذج  العدالة الانتقالية   في السودان والنظر في الانتهاكات الجسيمة التي تعرّض إليها المتظاهرون. يلجأ العمل الذي تُعرض نسخته المحدّثة عند التاسعة وتسع دقائق من مساء اليوم الأحد في "مركز أم درمان الثقافي"، إلى الموسيقى الغنائية والرقص المعاصر المستوحيين من التراث السوداني، ويقدّم بالتعاون بين "تجمّع التشكيليين السودانيين"، و"منطقة صناعة العرض المسرحي" في ختام "معرض الثورة السودانية". وتستند "كرّاس حساب" إلى ورشة مسرحية أقيمت في ساحة الاعتصام أيّام الثورة، وكان الهدف منها استخدام المسرح كوسيط علاجي للناجين من العنف الذي وُوجهت به التظاهرات (من اعتقال وتعذيب وإساءة لفظية وتحرش جنسي) وكانت آخر بروفة قبل فضّ اعتصام قيادة الجيش بساعات. ثقافة آداب وفنون وليد الألفي.. رؤية في المسرح السياسي السوداني
رؤية مسرحية أهل الكهف   وليد عمر الألفى خريف   نيالا 2007   الأهداء.. للذي يتأمر مع نقارة اب قزة ، ضد أحزان تلك الأمكنة .. حينما يدنقر ويبتل ظله بعرق الراقصين .. الى روح الفنان الشعبي أبا حلو واليك حينما كنت تقف أمامها .. تتأملها،   تتغزل فيها.. تبتسم لك ، تمسك معصمها ، وتذهب بها الى بيت فى الحاج يوسف .. ترقصا طول الليل .. تحتضنا بعضكما .. تسترخى هى على سريرك لينتصب وعيك ، حينها تغزف أفكارا لتنجب هى مستورة ، عجلة جادين الترزي ، الحله القامت هسه ود الجردقو ورائعات كن قادمات لو لم تقادر تلك الغرفة وتقادرك تلك الخشبة وهى حزينة فى ثوب الحداد اليك أيها الفنان الذي لايشبه الا نفسه (مجدي النور) وليد عمر الألفى الأسطورة : يخبرنا القرآن الكريم بأن هنالك سلطان ظالم لايقهر وكان يعامل شعبه معاملة غير كريمة ، يقتل من يشاء يسجن من يشاء وينفى .. وكان هنالك شباب لم يستطيعوا تحمل هذا الظلم ، ففروا هاربين ليحتموا بكهف ، وكان معهم كلبهم فناموا جميعا ، وعندما أستيغظوا وجدوا أنفسهم فى زمان غير زمان السلطان الظالم .. يفرحون لأن السلطان الحالى حكيم وعادل . كما يخبرنا التاريخ