التخطي إلى المحتوى الرئيسي

لبن العُشَر.. سرديَّات بأجنحة قصائد !

شاذلى جعفر شقَّاق

    يقيني إنَّه  لا يُمكن النظر إلى النصِّ المسرحيِّ  كلُغة ذات محمولات فكريَّة بمعزل عن الأشكال الفنيَّة المسرحية الأخرى من إخراج وتمثيل وديكور وإضاءة،ولكنها قطعاً من الأهمية بمكان بحيث أنها إذا صلحتْ؛صلحُت سداة النص وإن فسدتْ لا تغني العناصر الأخرى عنها شيئا،ولذلك قال كاتب ومخرج مسرحية (لبن العُشَر) الأستاذ وليد الألفي أحد ربابنة (مِنطقة صناعة العرْض) في تقدمة نصه: (إن النصَّ المسرحيَّ المكتوب هو واحدٌ من  أهم العقبات التي تقف بين الحكاية و عرضها في المسرح ، و ذلك للاعتقاد السائد بين الكتاب بأنه هناك طريقة واحدة لكتابة المسودة المسرحية  أو لجهلهم بطرائق كتابة النصِّ  المسرحي و لعدم قُدرتهم على ابتكار دروبٍ جديدةٍ في كيفيَّة عرض الحكاية على الورق أولاً )!
  إذن نحن أمامَ نَصٍّ ،نسَف صاحبُه سُفُنَه- طوْعاً واختياراً- في بحر التقليديَّة وأعني المطروق أو المعهود اسلوبياً في الكتابة المسرحيَّة،ليُصبحَ البحرُ خلف وبِطاحُ التجريب الخصيبةُ أمامه! لنرى إلى أيِّ حدٍّ – من حيث اللغة كمواعين- أعملَ فيها معاولَه وجرَّافاته ، و ومن ثمَّ  تجويدها وهندستها عبر (واسوق) الرؤية توطئةً لغرْسِ حبوب اجتراحاتِه تلك؟ولنرى أيضاً  هل ستؤتِي أُكُلَها – بعد ذلك- ويُصبح حصادُها مرتعاً فسيحاً لأسراب الأخيلة وآرام الشِّعْريَّة صعبة المِراس؟ وهل تصدحُ مَحْمولاتُها على أغصن الفرادة ومفارِقِ الأصالة؟
  حسناً ،لندلف إليها عبر العنوان (لبن العشر) ولسنا في حاجة لذكر قيمة اللبن الحيويَّة ونبْعه من ثدي الأمومة الفيَّاض ؛مانح الحياة والحب والصمود،ولا مكانته في الثقافة السودانية والعادات (قبل أن تنتاشها سهام الراهن الأعْجف) إذ يخصِّصون جلستين كُلَّ يوم للشاي باللبن (الصباح والمغرب) ،ومخاطبة أعزَّ الأعزاء بقولهم (العشاء أبْ لبن)، فضلاً عن كونه فألاً حسناً ومَلْمَح إكرامي وأحياناً يجنح إلى خصوصية الصلة،كما في قصيدة الشاعر الكبير محمد طه القدَّال:
أماتى القبيل بى حِنَّهِن لجَّـنِّـي
كَـرْفَـه وقَـلْـدَه كيف شوق اللبن رَجَّـنِّـي!
 فضلاً عن انتقال رمزيَّة الأمومة نفسها إلى رحاب أوسع وأشمل ،إلى مُرضعتِنا الحياة والحب (الأرض – الوطن).ولكن عندما نضيف كلمة (العُشَر) إلى (لبن) ؛قطعا سيتسمَّم معناها إذ يصبح اللبن كسراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءا! فمن هنا تتكشَّف أوجه الفكرة الراصدة لحركة الهجرة من الفقر والقهر والجوع إلى أصقاع المنافي وربَّما أعماق البحار والحيتان المفترسة!كأنما يقولها النص بلسانٍ مسرحيٍّ مُبين إنها استجارةٌ من الرمضاء بالنار!
  في نَصِّ المشهد الأول يتقرفص راعٍ وسط رفقاءه البائسين على المركب البحري الصغير  المكتظ ، تثغو على لسانه (العنزة أم قرين) التي تُخبئ الحليب تحتها من أجل السخيل (الرايح)، فإن عاد فمؤكدٌ أنه سيفرغ الحليب كلَّه في معدته ،فأمَّا إن لم يعُد ؛فإنه لا محالة (يَجَقْجِقْ في حلَّة السُكُرْجيَّة) ومن ثم إلى مِعَدِهم مختلطاً (بالمريسة والعسليَّة والعرقي النضيف)! فهل العنزة (أم قرين) إلاَّ الأرض الأم؟وهل (السخيل الرايح) إلاَّ أبناؤُها الضاربون في أرض الله دون هُدىً تتلقَّفهم البحار والحيتان؟! وهل تيس (الفدَّادية)المشاغب والمرافق لعنزات فريقه :( صعلوق ونهمٌ يسند مقدمةَ جسده في مؤخِّرة هذه ثم يُرسل عينيه إلى تلك وبعض الابتسامات إلى  أخرى و الصياح الى  أخريات بعيدات ليحجز له مقعداً تحت الذيل في مابعد ....  مرَّةً تراه شيخاً حكيماً ،و مرَّةً صبياً مراهقاً ومرةً مقاتلاً مدافعاً عن شرف العنز إذا ما جاء الى مملكته تيس زريبة الهوامل)!هل  هو خيرٌ من تيس زريبة الهوامل :( هذا الغريب بلا هُوية كان يمثل كلَّ معاني العيب و العار و الذل والضعف ثم الكبت إلَّا الذي حالفه الحظ وكان حبسه بين العنز  أو بعض التيوس التي لا تكترث لكونها تيوساً )!
 ولعلَّ المشهد على خشبة المسرح يعزِّز هذه الوُجهة إذ كان المهاجرون غير الشرعيين يتساءلون فيما بينهم وهم في عرْض البحر عن دوافع خروجهم أو قُل أسباب بحثهم عن هذه المهارب المحفوفة بالمخاطرو المجهولة المصائر،فقال أحدهم أنه خرج (ساكت بس) ؛قمَّة اليأس والقنوط، وقال آخر إنَّ صديقه أرسل له صوراً لحسناوات شقراوات فاتنان من الغرب،وهاهو يشمِّر عن ساعد فحولته غازياً بالجنس ،وقد شبَّهته في إضاءة خاطفة سابقة بمصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة إلى الشمال.
  ويواصل وليد الألفي في هذه السرديات المسرحية مستنداً إلى شاعرية اللُّغة والترميز والايحاء والتمثيلات الحسيَّة الملحوظة والمقابلات والمفارقات،والحنين الجارف، وتحميل مادته بالكثير من ثقافة المكان والفلوكلور والغناء الراقص والعادات الممعنة في المحليَّة والأسطورة كما في (الهمبول) خيال المآتة :( كان صقراً قذفت به السماء بين فخذي الحقل وحينما قبض عليه المزارع متلبساً يسرق عذرية الحقول ينهب مفاتنها وهي تلتوَّى بين جناحيه مغمى عليها .. جرَّه المزارعُ حيث منتصف الحقل ثم  ألبسه تلك الخرقة وجعل السنابل تشاهده مصلوباً لا يقوى على الحِراك، جعل الحقل يعذبه بالاحتفال ورقص القناديل على مزامير الريح الشرقية ، جعله يعرف معنى  أن تتعرَّى  أمامه ولا يطالها . تلامسه دون استجابة كلما  أثارته ؛انتصب خوفه ليقذف فكرة الانقضاض  بعيداً ويتذكر كونه مصلوباً .. عليه أن يكون حارسها من بقية الطيور الى أن يرضى عنه المزارع ربما يطلق سراحه يوما ما)! وهكذا تتشكَّل اللغة من من ألسنة الراعي ووعوالم التيوس ومعيزها،ومن ألسنة المزارع والسنابل التي تُثير شهوتَها مناقيرُ العصافير،وحكايات الطير الت تجتمع عند تلك (الشجرة) وتقرِّر نفي البعض من الشجرة ،بل من كافة الأشجار. وهنا ترتقي اللغة وتحلِّق عالياً في فضاءاتها :( طار مختبئاً بين جناحيه وحيداً يبحث عن  اتزان ، وقد سكت الكون في  أذنيه بعيداً مابين الزرقة  وبياض القطن السماوي حلق سجيناً يمناه محبوسة في باطن الأرض ويسراه تلوح مابين السماء و ما دناها سكونا .. هذه الأصابع العشرة .. ترغب عبور النجم التائه .. نجم يدل التائهين إلى منحاهم ، مثلهم حلق بأ وصافه بحثا عن تيه خاص .. و السماء تضيق بالنجم كلما انفتحت خياشيم  الليل ورسمت صمتاً في عينيه ، للنجمات التائهات دروباً ليست للطير .. مسارات تعكس  أحلام نمل الرض حينما يمشي على رجلين .. نمل الرض يتكئ على عصاة عرضها يملأ الكف وطولها يوقظ النجم كلما نام وعجز عن تجديد الوصف .. طار وحيداً يخبئ جناحيه بين  إبطيه كلما سمع بريح مجنون .. كما في حكايات الطير عن ذبح الطير للمناظر وعن ناي مكسور في الحناجر طار وحيداً  مذبوحاً بصدى الصفير المبحوح)!
  ولعل من البدهي أن مآلات مثل هذا النفي من الشجرة والأشجار الأخرى ؛يقابله التيه والتهلكة والدم والدموع في مشهدٍ يكتنفه عزيفُ الريح ،وخرير الأمواج وضجيج العالم المائي والقَصَص والغُصَص :( لاتسبِّين الغبار ولكن  أغمضي عينيك ستُبصرين السماء .. ستُبصرين السماء.. ستُبصرين، وعيونك سيملُّها الصفاء وضجيج الماء ستسمعين قصصاً عن الغرق والبيوت المهدمة والقلوب المهدمة و أمهات يحملن المعاول للبناء لكن الهدم هو المنتصر..ستسمعين عن قصة من حملت قلبها بكفها حفنة رماد .. ستسمعون من عن قصة شهيد خانه الوطن حينما صُدِّر في أكياس النفايات إلى محطات التلفزة)!
  أٌقول أخيراً إنَّ مسرحية (لبن العُشَر) استوتْ على هذا المنقد الحاذق الحصيف (منطقة صناعة العرض المسرحي)وعلى يدي وليد الألفي ورفاقه المبدعين، وهي تختزل بين جنبيها ركوب الموج والموت ،وآل البحار ،وزمهرير المخاطر ورعود المجازفة ،بحيث لا يبقى من الدفء إلاَّ الاجترار و تمشيط شَعْرَ الحنين ،ونشْر عباءات السلوان على حبل التعلَّة والتأسِّي والقنوط ،أو قُل على سبيل الفصل الأخير وعلى خشبة مدَّ البصر من الماء ، وستار قُدَّ من سديم الليل البهيم(أبطالُها رَكلتْهم (سَرْحتُهم التي غنَّوا بها) على ايقاع الزمن الحالم كتبوا حكايتهم المؤلمة بالدمع المالح  والدم المتجمِّد ،بتسلسل يعلو ويهبط كأنفاس استكانة بعد رهَقٍ لذيذ،أو شهقة مياه بدلاً من الهواء في خاتمة المطاف،حيث لا حوار – عندها- سوى حوار الأمل والقنوط ،والصبر والجزع، حوار الموج والموت والسماء ،الموت الذي يدركونه في عقر داره!شاهرين صراع البقاء بكرامة أو الموت بعرض البحار وبطون الحيتان!

ثقافي الأيام- الأحد 12 /11/2017م







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من ذاكرة المنطقة الصنايعية (كايليك - أهل الكهف) - مارس 2008م

وليد الألفي.. رؤية في المسرح السياسي السوداني

  في عرضه "كرّاس حساب"، يتناول الكاتب و المخرج المسرحي   السوداني وليد الألفي   الانتفاضة الشعبية   التي اندلعت في بلاده في كانون الأول/ ديسمبر عام 2018، من خلال إضاءة جانب من تداعياتها متعلّق بمناقشة أزمة الحكم في ظلّ الحكومة الانتقالية ونموذج  العدالة الانتقالية   في السودان والنظر في الانتهاكات الجسيمة التي تعرّض إليها المتظاهرون. يلجأ العمل الذي تُعرض نسخته المحدّثة عند التاسعة وتسع دقائق من مساء اليوم الأحد في "مركز أم درمان الثقافي"، إلى الموسيقى الغنائية والرقص المعاصر المستوحيين من التراث السوداني، ويقدّم بالتعاون بين "تجمّع التشكيليين السودانيين"، و"منطقة صناعة العرض المسرحي" في ختام "معرض الثورة السودانية". وتستند "كرّاس حساب" إلى ورشة مسرحية أقيمت في ساحة الاعتصام أيّام الثورة، وكان الهدف منها استخدام المسرح كوسيط علاجي للناجين من العنف الذي وُوجهت به التظاهرات (من اعتقال وتعذيب وإساءة لفظية وتحرش جنسي) وكانت آخر بروفة قبل فضّ اعتصام قيادة الجيش بساعات. ثقافة آداب وفنون وليد الألفي.. رؤية في المسرح السياسي السوداني
رؤية مسرحية أهل الكهف   وليد عمر الألفى خريف   نيالا 2007   الأهداء.. للذي يتأمر مع نقارة اب قزة ، ضد أحزان تلك الأمكنة .. حينما يدنقر ويبتل ظله بعرق الراقصين .. الى روح الفنان الشعبي أبا حلو واليك حينما كنت تقف أمامها .. تتأملها،   تتغزل فيها.. تبتسم لك ، تمسك معصمها ، وتذهب بها الى بيت فى الحاج يوسف .. ترقصا طول الليل .. تحتضنا بعضكما .. تسترخى هى على سريرك لينتصب وعيك ، حينها تغزف أفكارا لتنجب هى مستورة ، عجلة جادين الترزي ، الحله القامت هسه ود الجردقو ورائعات كن قادمات لو لم تقادر تلك الغرفة وتقادرك تلك الخشبة وهى حزينة فى ثوب الحداد اليك أيها الفنان الذي لايشبه الا نفسه (مجدي النور) وليد عمر الألفى الأسطورة : يخبرنا القرآن الكريم بأن هنالك سلطان ظالم لايقهر وكان يعامل شعبه معاملة غير كريمة ، يقتل من يشاء يسجن من يشاء وينفى .. وكان هنالك شباب لم يستطيعوا تحمل هذا الظلم ، ففروا هاربين ليحتموا بكهف ، وكان معهم كلبهم فناموا جميعا ، وعندما أستيغظوا وجدوا أنفسهم فى زمان غير زمان السلطان الظالم .. يفرحون لأن السلطان الحالى حكيم وعادل . كما يخبرنا التاريخ