الحياة مهنتي
لبن العشر... وحب الوطن لا يصدأ
الطيب
كنونة
في
الموروثات السودانية العديد من الأحاجي والمفردات التي ومن الوهلة الأولى تشرح
المعنى المطلوب واستعماله وايراده في اي تفاهمات لجهة
التأكيد أو النفي أو الإستدامة لتلك المقولة أو المعنى. العُشر نبات عشوائي ينمو
دون ترتيب في مناطق معروفة في السودان وبالذات ذات التربة الرملية وهو نبات شبه
صحراوي ويستفاد من سيقانه القصيرة في عمليات بناءا لمنازل والحيشان البلدية
وللأطفال له معنى إذ يلعبون بثمرته والتي في حجم فاكهة القريب كرةً للقدم مؤقتة
وحين الوطئ عليها تحدث فرقعة شديدة يفرح بها الأطفال. عند قطعه يخرج سائل بيضاوي
اللون وهو مر المذاق وذو رائحة غير مستحبة وضار للعيون عند الإقتراب منه،
والحبوبات سابقاً كن يلجأن للسخرية والتهكم عند عدم تنفيذ ما هو مطلوب من الأطفال ( لبن العُشر
في عيونك الغلاد ديل) كنايةً على عدم الرضى من تنفيذ بعض الواجبات وأيضاً (عيونك
الكبار ما بشوفن) استعمال الرمزية مفردة تؤشر إلي لبن العُشر وتعني الإستحالة
وتدلل على عدم الفائدة منه إلا أن العلم الحديث أثبت لآحقاً بأن ذلك السائل اللبني
له فائدة في علاج بعض الأمراض. وظف الصنائعي وليد الألفي عبر فرقة منطقة صناعة
العرض المسرحي تلك الحقيقة في عمل مسرحي بعنوان (لبن العُشر) استفاد فيه من تجربته
في مناطق التنازعات في دارفور وبالتحديد في المعسكرات التي اُقيمت كبديل مؤقت
للسكن إلى حين. أصل الحكاية فالهجرة التي أصبحت حلم كل من يريد أن يبني مستقبله بعيداً
عن وطنه بعد أن سدت الطرق الواصله إلى ذلك في طريقه عبر عدد من الحقائق الماثلة
والمعروفة والمشاهدة على الواقع الحالي والذي يرسم أخاديده وتجاعيده وتضاريسه على
الشباب. وفي تلك المركبة التي يقودها الربان الماهر بخبرته الطويلة في مجال المسرح
والدراما (عبد الرحمن الشبلي) ومجموعة من الشباب الواعد وفي فصل مسرحي واحد وعلى
عرض البحر المتلاطم الأمواج وتلك المركب التي يعتقد راكبيها طوق النجاة لعالم آخر،
البحر والرياح والسكون والعواصف المؤدية إلى الخوف بحثاً عن مستقبل قد يكون آمناً
حيث شهدت الهجرات الأخيرة الغير آمنة غرق عدد من تلك المراكب وابتلع البحر أحلام
ومستقبل الهاربين عن أوطانهم، وعند سكون الرياح يصبح كل الناس اتنين اتنين، كل
يحلم بدفء أحضان حبيبته ويأمل الظفر بأي وظيفة خارج الوطن، وعندما تعلو تلك
الأمواج وهي حالة افتراضية المعنى يتساعد الجميع على ثبات المركب من الغرق وليعم
الفرح حين يلوح في الأفق البعيد لمدينة مضيئة هي سراب، وتبقى الذكريات سلوى وعون
في عرض البحر. سفينة سيدنا نوح عليه السلام حملت من مخلوقات الله جميعاً زوجين
وأكثر لإعمار الأرض بعد ذلك الطوفان، أما سفينة لبن العُشر حملت أفراد الحلم
الوهمي لأفراد لا رابط بينهم إلا الهروب، خمسة وسادسهم قائدهم وهو يحكي عن الزمن
الجميل الذي لن يعود باستفاضه شعراً ونثراً عربياً وشعبياً حتى يأخذ النعاس الجميع
وينومون في تلك المساحة الضيقة في المركب التي تمثل ضيق المأوى والسكن والتعليم
والعمل والتعبير أما قائدهم بعد أن طاف بتلك العوالم يتوسد هو أيضاً جزءاً من
مساحة ذلك الحلم في غفوة لا ارادية، وما توفر من طعام فهو القليل يفي حاجات صاحبه
وهي رمزية للأنانية حتى في عرض البحر حين يستبد الجوع الجميع تجسيداً في تلك
المركب، وللبحر مواله وأناشيده وللتذكر الذي القياه خلفهم أيضاً دوره في اخماد
حالات التوتر والخوف وعنذايه الفريق لذاك الشاب البدوي من دارفور والتي أسماها
حبيبته ضمن راكبي المركب تمثل له الخير والأرض المعطاء والرخاء فكيف له أن يلتقيها
وقد ودعها وهرب دون وداع، وحين الغرق تصحو في الجميع حقيقة ذلك الحلم القسري الذي
بُني على وطن بديل ارتضاه الجميع وكان قاع البحر ملاذهم الأبدي حين غرقت تلك
الطموحات والآمال بعد اشتداد العواصف وصارت الأجساد غذاءً لساكني البحر وليتهم
وعوا تلك الحقيقة والتي تناولوها في آخر نشيدهم الجنائزي.. بلدي.. ولا ملي بطني.
عالج النص وبتكاليف عالية هموم الاغتراب والبطاله والعطاله ومعاناة الشباب ورمي
شباكهم المهترئة أحلاماً في يباب الحقائق المؤلمة. لامست المعالجة القضايا
المطروحة الآن بفهم متطور كالمشاركة وإبداء الرأي ودراية اكتسبها فريق تلك الرحلة
باحترافية عالية. إذا كانت لنا بعض الملاحظات عبر المشاهدة.. وليس التخصص.. تظل حتماً
محل دراسة وتطوير للنقد البناء ولعل أهمها الاستعانه بالايضاحية المصاحبه لأغنية
فيروز (البحر) وكان يمكن الاستعاضه عنها بعدد من الأغاني السودانية والتي توصف خطر
البحر والهجرة والحنين للبلد وفي أدب السماكة والمراكبية الكثير والكثير في ذلك والذي
يرمي لدفء العلاقة بين البحر وتلاطم أمواجه العالية وخطورة المسير في تلك
المنعطفات، كما أن اللبس الذي ظهر به قائد المركب الشبلي لا يتوافق ومجمل تفاصيل
ما يروي من حكايات لهؤلاء الشباب وهجرته ليعمل مدرباً لكرة القدم في أوربا، وكذلك
عدم انسجام الأداء الكورالي لبعض الأغاني الشعبية وكان يمكن الاستعانه عنها
بالتسجيل الصوتي وهي لا تفوت على ملاحظة صانع العرض. الحضور الجميل والمميز والذي
زين مسرح فرقة الفنون الشعبية حتى ضاقت به تلك المساحة، ومما يسر أن أنه شكل
تنوعاً من فئات عمرية مختلفة الشباب والشيب والأطفال وهذه محمدة إذ أن رسالة
المسرح والدراما مازالت متقدة تلبي بعض الطموحات وإن اعترتها العديد من المعوقات
مثل التمويل والتدريب والتنافس الحر دون انحياز. نرفع قبعات التحية لكل من ساهم في
العمل المميز وفي التقدير تكون الفائدة أكثر إذا انتقل إلى رحابات أوسع وطاف الولايات
والمدن والقرى لما له من أهمية تُعلي من شأن هذا النشاط الحيوي والذي نأمل أن
تتوسع فيه المناهج الدراسة والتعليمية لتكون مادةً تُدرس بدءاً من مراحل التعليم
الأولي وتفرد له الجوائز والحوافز التقديرية تشجيعاً وتطويراً وأن لا يكون دور
المسرح في المناسبات وعند التذكر.
تعليقات
إرسال تعليق